تفسير سورة الإخلاص
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 - 4].
سورة الإخلاص من السور المكيَّة من المفصَّل، وعدد آياتها أربع آيات، وعدد كلماتها: (١٥)، وعدد حروفها: (٤٧)، وترتيبها في المصحف السورة رقم: ( ١١٢)، في الجزء الثلاثين من القرآن الكريم.
وسُمِّيت سورة الإخلاص بهذا الاسم؛ لاشتمالها على توحيد الله سبحانه وتعالى، وإخلاصِ العبادة له، واللجوءِ إليه دون من سواه، وتنزيهه عن كلِّ نقص وشرك.
ولقد تباينت الآراء حول إن كانت السورة مدنيَّة أم مكيَّة؛ فالجمهور على أنها سورةٌ مكيَّة، واستدلوا على ذلك أنَّها جمعت أصول التوحيد، وهذا الأمر غالبٌ في السور المكيَّة، وهو القول الأرجح على رأي ابن عاشور، أما قتادة والضحاك والسدي وأبو العالية والقرظيّ فذكروا أنَّها سورةٌ مدنيَّة.
قال القرطبي: (سورة "الإخلاص" مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَجَابِرٍ. وَمَدَنِيَّةٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ ابْنِ عباس وقتادة والضحاك والسدي..).
سبب نزولها:
لقد ذُكر أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسب ربِّ العزَّة، فأنزل الله تعالى هذه السورة جوابًا لهم.
وقيل: بل نزلت من أجل أن اليهود سألوه، فقالوا له: هذا الله خَلَقَ الخَلْق، فمن خلَق الله؟ فأُنزلت جوابًا لهم.
قال الطبري: «ذُكر أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسب ربِّ العزَّة، فأنزل الله تعالى هذه السورة جوابًا لهم. وقال بعضهم: بل نزلت من أجل أن اليهود سألوه، فقالوا له: هذا الله خلَقَ الخلْقَ، فمن خلَق الله؟ فأُنزلت جوابًا لهم».
وعن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبَيِّ بن كعب، قال: قال المشركون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: انسُب لنا ربك، فأنزل الله: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾.
وعن عكرمة، قال: إن المشركين قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن ربك، صف لنا ربك ما هو، ومن أي شيء هو؟ فأنزل الله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ إلى آخر السورة.
وعن الربيع، عن أبي العالية ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ قال: قال ذلك قادة الأحزاب: انسُب لنا ربك، فأتاه جبريل بهذه.
وعن مجالد، عن الشعبي، عن جابر قال: قال المشركون: انسُب لنا ربك، فأنزل الله ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾.
وعن قتادة، قال: جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: انسُبْ لنا ربك، فنزلت: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ حتى ختم السورة.
وقال الطبري: «فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا: قل يا محمد لهؤلاء السائليك عن نسب ربك وصفتِه، ومَن خَلقه: الربُّ الذي سألتموني عنه، هو الله جل وعلا الذي له عبادة كلِّ شيء، لا تنبغي العبادة إلا له، ولا تصلح لشيء سواه».
فضائل سورة الإخلاص:
إن لسورة الإخلاص فضائلَ عظيمة، ومنازل رفيعة، حيث تعدل وتساوي قراءتها ثلث القرآن، ويحصل لقارئها ثواب قراءة ثلث القرآن، وهي تساوي ثلث القرآن الكريم باعتبار معانيه، فإنَّ القرآنَ فيه أحكامٌ، وأخبارٌ، وتوحيدٌ، والتوحيدُ يَدخُل فيه معرفةُ أسماءِ الله تعالى وصِفاتِه، وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هي على القِسْمِ الثالثِ (التَّوحيدِ)؛ فكانت ثُلُثًا بهذا الاعتبارِ، ومن عظيم مكانتها أن قراءتها جالبة لمحبة الله جل وعلا؛ ففي الحديث، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: أنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا على سَرِيَّةٍ، وَكانَ يَقْرَأُ لأَصْحابِهِ في صَلاتِهِمْ، فَيَخْتِمُ بقُلْ هو اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمّا رَجَعُوا ذُكِرَ ذلكَ لِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقالَ: ((سَلُوهُ لأَيِّ شيءٍ يَصْنَعُ ذلكَ؟))، فَسَأَلُوهُ، فَقالَ: لأنَّها صِفَةُ الرَّحْمَنِ، فأنا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بها، فَقالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَخْبِرُوهُ أنَّ اللَّهَ يُحِبُّه))؛ «صحيح مسلم/ ٨١٣».
وفي الحديث كذلك عن أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ((أَيَعجِزُ أحَدُكم أنْ يَقرأَ ثُلُثَ القُرآنِ في لَيلةٍ: اللهُ الواحدُ الصَّمدُ))؛ «شعيب الأرنؤوط، تخريج المسند ١٧١٠٩- صحيح، أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (١٠٥٢٩)، وابن ماجه (٣٧٨٩)، وأحمد (١٧١٠٩) واللفظ له».
وذكر الطبري: أنه كان الحسن وقتادة يقولان: «الباقي بعد خلقه، قال: هذه سورة خالصة، ليس فيها ذكر شيء من أمر الدنيا والآخرة».
قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾؛ أي: ﴿قُلْ﴾ -أيها الرسول-: قولًا جازمًا به، معتقدًا له، عارفًا بمعناه أنه هو الله جل وعلا المتفرد بالألوهية والربوبية، والأسماء والصفات فلا يشاركه فيها أحد، ولا إله غيره، حيث انحصرت فيه الأحديةُ سبحانه وتعالى، فهو الأحد المنفرد بالكمال، الذي له الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا، والأفعال المقدسة، الذي لا نظير له ولا مثيل.
وقد اشتملتْ (قُلْ هو اللهُ أَحَدٌ) على اسمَينِ من أسماءِ اللهِ تعالى، مُتَضَمِّنَيْنِ كُلَّ أوصافِ الكمالِ، ولم يُوجَدا في غيرِها من سُوَرِ القُرآنِ، وهما: الأَحَدُ، والصَّمَدُ؛ فإنَّهما يَدُلَّانِ على ذاتِ اللهِ تعالى الموصوفةِ بجميعِ أوصافِ الكمالِ، وبيانُ ذلك: أنَّ الأَحَدَ يُشْعِرُ بِوُجودِهِ الخاصِّ، الَّذي لا يُشارِكُهُ فيه أَحَدٌ غيرُهُ، والصَّمَدَ يُشْعِرُ بجميعِ أوصافِ الكمالِ؛ لأنَّهُ الَّذي بَلَغَ سُؤْدُدُه إلى مُنتهى الرِّفْعةِ والكمالِ، والَّذي يَحْتاجُ إليه جميعُ الخَلائقِ، وهو لا يَحْتاجُ إلى أَحَدٍ سبحانه.
وقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ [الإخلاص: 2]؛ أي: المقصود في جميع النوازل والحوائج. فأهل العالم العلوي والسفلي مفتقرون إليه غايةَ الافتقار، يسألونه حوائجهم، ويرغبون إليه في مهماتهم؛ لأنه الكامل في أوصافه، العليم الذي قد كمل في علمه، الحليم الذي قد كمل في حلمه، الرحيم الذي كمل في رحمته الذي وسعت رحمته كلَّ شيء، وهكذا سائر أوصافه، وهو سبحانه الذي كَمُل في صفات الشَّرَف والمجد والعظمة، الذي يقصده الخلائق جميعهم في قضاء الحوائج والرغائب، وهو السيد سبحانه الذي انتهى إليه السُّؤْدد في صفات الكمال والجمال، الذي تصمد إليه الخلائق، والمعبود الذي لا تصلح العبادةُ إلا له الصمد.
وقد رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الصمد: الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَاجَاتِ.
وقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الصَّمَدُ: السَّيِّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي النَّوَازِلِ وَالْحَوَائِجِ.
وقوله تعالى: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3].
أي: الذي لم يلد أحدًا، ولم يلده أحد، فلا ولَد له - سبحانه وتعالى - ولا والد، ولا صاحبة، وهذا من كماله جل وعلا أنه ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾؛ لكمال غناه جلَّتْ قدرته وعظمته.
قال الطبري: «لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله جل ثناؤه لا يموت ولا يورث».
وتعتبر هذه الآية ردًّا على كل من جعل لله جل وعلا ولدًا، فمنهم النصارى في قولهم: "عيسى ابن الله"، واليهود في قولهم: "عزير ابن الله"، والعرب في قولهم: "الملائكة بنات الله"، وقد أقام الله البراهين في القرآن على نفي الولد، كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 30].
وقد أوضح وفصَّل ذلك تفصيلًا جميلًا ابن جُزيّ في تفسيره «التسهيل لعلوم التنزيل»، فقال: «﴿لَمْ يَلِدْ﴾ هذا ردٌّ على كلِّ من جعل لله ولدًا، فمنهم النصارى في قولهم: "عيسى ابن الله"، واليهود في قولهم: "عزير ابن الله"، والعرب في قولهم: "الملائكة بنات الله"، وقد أقام الله البراهين في القرآن على نفي الولد، وأوضحها أربعة أقوال: الأول: أن الولد لا بد أن يكون من جنس والده، والله تعالى ليس له جنس فلا يمكن أن يكون له ولد، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾ [المائدة: 75]، فوصفهما بصفة الحدو؛ث لينفي عنهما صفة القدم فتبطل مقالة الكفار. والثاني: أن الوالد إنما يتخذ ولدًا للحاجة إليه، والله لا يفتقر إلى شيء فلا يتخذ ولدًا، وإلى هذا أشار بقوله: ﴿ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ﴾ [يونس: 68]، الثالث: أن جميع الخلق عباد الله والعبودية تنافي البنوة، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93]، الرابع: أنه لا يكون له ولد إلا لمن له زوجة، والله تعالى لم يتخذ زوجة فلا يكون له ولد، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ﴾ [الأنعام: 101]».
وقوله تعالى: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4]؛ أي: ولم يكن لَه شبيه ولا عِدل، وليس كمثله شيء.
وعن ابن عباس ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ قال: ليس كمثله شيء، فسبحان الله الواحد القهار.
وفي الآية تقديم وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ كُفُوًا، فَقَدَّمَ خَبَرَ كَانَ عَلَى اسْمِهَا، وذلك لِيَنْسَاقَ أَوَاخِرُ الآي على نظم واحد.
قال القرطبي: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلًا أحد. وفيه تقدم وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ كُفُوًا، فَقَدَّمَ خَبَرَ كَانَ عَلَى اسْمِهَا، لِيَنْسَاقَ أَوَاخِرُ الآي على نظم واحد.
من هداية سورة الإخلاص ومقاصدها:
1- معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته.
2- تقرير التوحيد والنبوة.
3- بطلان نسبة الولد إلى الله تعالى.
4- وجوب عبادته تعالى وحده لا شريك له فيها؛ إذ هو الله سبحانه وتعالى ذو الألوهية على خلقه دون سواه.
5- إثبات تفرُّد الله تعالى بالألوهية والكمال، وتنزيهه عن النقص والنظير والمثيل، وأنه لا يُقصَد في الحوائج غيرُه، والردُّ على من نسب إلى الله تعالى الوالدَ والولدَ.
6- بيان فضل سورة الإخلاصِ.
7- سعة عظيم فضل الله تعالى على عباده، بأن جعل قراءة سورةٍ قصيرةٍ تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن الكريم.
هذا ما تيسر إيراده من تفسير لهذه السورة العظيمة المباركة، نسأل الله جلَّ وعلا الفردوس الأعلى في الجنة، والفوز في الدارين، والثبات على الحق والخير حتى نلقاه، وأن يجعل ما كُتب من العلم النافع والعمل الصالح، والحمد لله ربِّ العالمين.
المصادر والمراجع:
1- جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري)، للإمام محمد بن جرير الطبري.
2- الجامع لأحكام القرآن، (تفسير القرطبي)، للإمام محمد بن أحمد بن أبي بكر شمس الدين القرطبي.
3- تفسير القرآن العظيم، (تفسير ابن كثير)، للإمام عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير.
4- معالم التنزيل (تفسير البغوي)، للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي.
5- التسهيل لعلوم التنزيل، لأبي القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبدالله، ابن جزي الكلبي الغرناطي.
6- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبدالرحمن السعدي.
7- أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، الشيخ جابر بن موسى بن عبدالقادر المعروف بأبي بكر الجزائري.
8- المختصر في التفسير، مركز تفسير.
9- التفسير الميسر، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
10- صحيح البخاري، للإمام محمد بن إسماعيل البخاري.
11- صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري.
12- مسند الإمام أحمد، أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني.
13- سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني.
14- سنن الترمذي، الحافظ أبو عيسى محمد الترمذي.
15- السنن الكبرى، لأبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي.
16- سنن ابن ماجه، أبو عبدالله محمد بن ماجه القزويني.
17- موسوعة الدرر السنية.
شبكة الألوكة