شَهَادة التوحيد معناها ومقتضاها
شهادة التوحيد "لا إله إلا الله" هي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وبراءة من الشرك، ونجاة من الهلاك، ولأجلها خُلِق الخَلْق، وأُرْسِلت الرُسَل، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}(الأنبياء:25)، وقال عز وجل: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}(النحل:2). وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}(النحل:36). قال السعدي: "يخبر تعالى أن حجته قامت على جميع الأمم، وأنه ما من أمة متقدمة أو متأخرة إلا وبعث الله فيها رسولا، وكلهم متفقون على دعوة واحدة ودين واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له".
والتوحيد الذي تعبر عنه كلمة "لا إله إلا الله" هو أول واجب على العباد، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: (إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى) رواه البخاري.
ومعنى "الإله": المألوه بالعبادة، وهو الذي تَألَهُه (تعبده) القلوب محبة، ورجاء، وخشية، وتعظيماً، وتقصده رغبةً إليه في حصول نفعٍ، أو دفع ضرٍّ. قال ابن القيم: "(الإله) هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابة، وإكراماً وتعظيماً وذلاً وخضوعاً وخوفاً ورجاء وتوكلاً"، وقال ابن تيمية: "(الإله) هو المعبود المطاع، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يُعبد، وكونه يستحق أن يُعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع.. فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت (لا إله إلا الله) أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله".
والتوحيد هو إفراد الله سبحانه بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء الحُسْنَى والصفات العُلى. قال ابن القيم في "مدارج السالكين": "ليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه: لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عُبَّاد الأصنام مُقِرِّين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء، والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها، ومن عرف هذا عرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)".
وقال ابن رجب: "(الإله) هو الذي يُطاع فلا يُعصى، هيبة له وإجلالاً، ومحبة وخوفاً ورجاء، وتوكلاً عليه، وسؤالاً منه ودعاء له، ولا يصلح هذا كله إلا الله عز وجل، فمن أشرك مخلوقاً في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحاً في إخلاصه في قول (لا إله إلا الله) وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك".
وكلمة التوحيد "لا إله إلا الله" تعني: أنه لا معبود بحق إلا الله، وهي تدل على معنيَيْنِ: نفيٌّ، وإثبات، فقول: "لا إله" نفيٌّ لجميع الآلهة، وقولُه: "إلا الله" إثباتٌ لألوهيَّة الله عز وجل، وأنه هو الإلهُ الحقُّ وحدَه لا شريك له، وأن ما عبده أو يعبده الناس من دون الله، من أصنام وأحجار، أو من نبي مُرْسَل أو ملَكٍ مُقَرَّب، فضلاً عن غيرهما من المخلوقات، كله باطل، كما قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}(الحج:62). قال ابن كثير: "{ذَلِكَ} صاحب الحكم والأحكام {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي: الثابت، الذي لا يزال ولا يزول، الأول الذي ليس قبله شيء، الآخر الذي ليس بعده شيء، كامل الأسماء والصفات، صادق الوعد، الذي وعده حق ولقاؤه حق، ودينه حق، وعبادته هي الحق، النافعة الباقية على الدوام. {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} من الأصنام والأنداد، من الحيوانات والجمادات، {هُوَ الْبَاطِلُ} الذي هو باطل في نفسه، وعبادته باطلة، لأنها متعلقة بمضمحل فان، فتبطل تبعا لغايتها ومقصودها، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} العلي في ذاته، فهو عال على جميع المخلوقات وفي قدره، فهو كامل الصفات، وفي قهره لجميع المخلوقات، الكبير في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته".
وقال الله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(آل عمران:64)، قال ابن كثير: "هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومن جرى مجراهم.. {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} لا وثنا، ولا صنما، ولا صليبا ولا طاغوتا، ولا نارا، ولا شيئا، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له. وهذه دعوة جميع الرسل، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ}(الْأَنْبِيَاء:25)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}(النَّحْلِ:36)".
فائدة:
لا يدخل العبد في الإسلام إلا بهاتين الشهادتين: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله"، فهما متلازمتان، فشهادة "لا إله إلا الله" أي: لا معبود بحق إلا الله، وشهادة "أن محمدا رسول الله" أي: التصديق الجازم من صميم القلب الموافق لقول اللسان بأن محمدا عبده ورسوله إلى الخلق كافة، والعلم بأن طاعته هي طاعة الله، ومعصيته هي معصية الله، لأنه مبلغ عن الله رسالته، ولم يتوفه الله حتى أكمل به الدين، فهو خاتم النبيين والمرسلين. والنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه جبريل في صورة رجل وسأله عن الإسلام قال له: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً) رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَن لَا إله إِلَّا اللَّه وَحْدَه لا شريك له، وأَنَّ مُحَمَّداً عبْدُه ورسوله، وأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّه وابْن أمَتِه، وكلِمَتُه ألقاها إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْه، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّار حَقٌّ، أدخله اللَّهُ الْجنَّة مِنْ أَيِّ أَبْوَاب الجنَّة الثمانية شاء) رواه البخاري.
وأما معنى كلمة "أشهد" في الشهادتين: فيدور حول العلم والاعتقاد، ولها مراتب بعد ذلك، ذكرها ابن القيم في مدارج السالكين، فقال: "فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته. وثانيها: تكلمه بذلك ونطقه به، وإن لم يعلم به غيره، بل يتكلم به مع نفسه ويذكرها، وينطق بها أو يكتبها. وثالثها: أن يعلم غيره بما شهد به، ويخبره به، ويبينه له. ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به".
وقد استنبط العلماء من الأحاديث النبوية في فضل كلمة التوحيد، شروطا لابد من توافرها، وهذه الشروط هي أسنان المفتاح الذي تُفْتَح به الجنة، ومنها: العلم، واليقين، والصدق، والإخلاص، والقبول، والانقياد، والمحبة.. هذا بالإضافة إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم. وكثير من الناس يحقق شروط ومعاني "لا إله إلا الله" وإن لم يكن يعرفها ولا يحسن عدَّها، قال الشيخ حافظ حكمي عن شروط لا إله إلا الله: "وَمَعْنَى اسْتِكْمَالها اجْتمَاعها في العَبْد، والتِزَامُه إِيَّاها بدُون مُناقضَةٍ مِنْه لِشَيْءٍ مِنْها، وليْس المراد مِنْ ذلك عدَّ ألفاظها وحفْظها، فكَمْ مِنْ عَامِّيٍّ اجْتَمَعَتْ فيه والتَزَمَها، وَلَوْ قِيلَ له: أُعْدُدْها لمْ يُحْسِن ذلك، وكَمْ حافِظٍ لألفاظها يجري فيها كالسَّهْم وتراه يَقعُ كثيراً فيما يُنَاقِضُها، والتَّوْفيق بِيَدِ اللَّه، واللَّهُ الْمُسْتَعَان".
شهادة وكلمة التوحيد "لا إله إلا الله" أصلُ الدِّين وأساسه، ومعناها لا معبود بحق إلا الله، وقد جعلها الله تعالى باب الدخول في الإسلام، كما جعلها سبب النجاة من النار، ومغفرة الذنوب ودخول الجنة، وقد كثرت وتواترت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في عِظم وفضل "لا إله إلا الله". ومن مات على التوحيد، موقناً أنه "لا إله إلا الله" غير آتٍ بشيء من نواقضها فهو من أهل الجنة، وقد يدخل النار فيُعَذَّب بما عليه من الإثم، وقد يَغْفِر اللهُ عز وجل له، وإن عُذِّب بما عليه فمآله إلى الجنة في نهاية الأمر بفضل الله تعالى ورحمته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ، قالوا: ولا أنْتَ يا رسول اللَّه؟ قال: لا، ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بفَضْلٍ ورَحْمة) رواه البخاري.
اسلام ويب