ظلت الوحدة المحور الذي يجذب مشاعر سلفنا أهل السنة والجماعة وأنشطتهم على مدار التاريخ ، بل إن اسمهم يدل على ذلك ، فهم متوحدون على السنة ، وقد ضحوا في سبيل ذلك بتضحيات كثيرة ، ليس أقلها تحمل عسف الظلمة والطغاة ، وكيفوا كثيراً من اجتهاداتهم على نحو يجعل وحدة الأمة واجتماع الكلمة هدفاً أسمى ، وحاجةً ملحة ، لكن ضعف الشورى وضعف الدولة المركزية في بغداد ، وعدم تطوير نظام إداري قوي مرن يحقق التوحيد في جوانب ، ويحفظ الخصوصيات في جوانب ، وأسباب أخرى أدت جميعها إلى تفتت الخلافة العباسية ووأدها على يد التتار عام 656 هـ ، وقامت بعد مدة الخلافة العثمانية ، فجمعت شمل كثير من الدول والإمارات الإسلامية مرة أخرى . ونتيجة لتآمر كبير من الخارج ، وقصور أكبر من الداخل سقطت الخلافة العثمانية ، وتشتت شمل العالم الإسلامي ، ووقع كثير من بلدانه في براثن الاستعمار الأوربي ، الذي لم يخرج حتى شوّه كثيراً من البنى الفكرية والثقافية لتلك الدول المستعمرة ؛ حتى لا تختلف كثيراً بعد خروجه عما كانت عليه قبله ، بل إن بعضها ازداد حاله سوءاً ! .
لكن على الرغم من كل ما حصل ظلت أشواق الوحدة تضطرم في النفوس ، وظلت الأبصار مشدودة نحو مستقبل لأمة الإسلام ، يسوده الوئام والتناصر ، ومع كل صدع يصيب كيان هذه الأمة على أي مستوى كانت تتصدع قلوب كثير من المخلصين الغيورين .
فما هي العوائق التي مازالت تحول دون أي شكل واسع ذي قيمة من أشكال الوحدة ، والتنسيق بين دول وشعوب العالم الإسلامي ؟
نحن ننظر ابتداء إلى أن عقيدة التوحيد قادرة على جعل من يؤمن بها أمةً من دون الناس يحكمها منهج واحد ، وتنتهي إلى غايات واحدة ، كما أن تلك العقيدة بما يتبعها من أحكام ونظم تحدد أشكال التعامل بين هذه الأمة وبين غيرها من الأمم ، وهذا كله يجعل تحقيق شكل من أشكال الوحدة بين شعوب العالم الإسلامي أمراً طبيعياً بدهياً ، ولا سيما أن غير المسلمين ينظرون إليهم على أن لهم من التجانس والتميز ما يجعلهم جميعاً في خندق واحد .
والعالم الغربي يسير اليوم بسرعة مدهشة نحو اعتبار كل المسلمين مهما تكن درجة التزامهم أصوليين متطرفين معادين ! .
وإذا كان الأمر كذلك فإن بروز أشكال من التعاون والتوحد بين الشعوب والدول الإسلامية قد يكون مرهوناً إلى حد بعيد بنضوج الصحوة الإسلامية المباركة وانتشارها وتمكنها ، لكن هناك من العوائق والصعوبات ما يجب تذليله أو التخفيف من غلوائه قبل أن نتمكن من تحقيق ما نريد ، ولعلنا نوجز فيما يلي أهم تلك العقبات :
1- إن حالة السكون والركود التي يعيشها كثير من شعوب العالم الإسلامي ستنتج دائماً التفكك والتمزق ، فالانطلاق الراشد يؤمّن ترابطاً عجيباً بين سائر بُنَى الأمة ومؤسساتها ، حيث تتمكن الأمة من حل كثير من المشكلات كما أنها لا تتوهم العناء حينئذ من مشكلات لا وجود لها .
2- هناك علاقة حساسة بين الوحدة والحرية قد تصل إلى حد التضاد في بعض الأحيان ، مع أن كلاً منهما يؤمّن حاجات أساسية للفرد والأمة ، فالوحدة قيود قد تصادر بعض الحريات ، وتستلب شيئاً من المكاسب ، وهذا على كل المستويات ، والناس حين يتحملون أعباء الوحدة وقيودها إنما يفعلون ذلك لما توفره من حاجات ومصالح ، ولما تدفعه من مخاطر التشرذم ، فإذا أحس متحدان (شعبان أو شخصان) أن أعباء الوحدة أكبر من منافعها صاروا جميعاً إلى التخلص منها ، مهما تكن العواطف قوية نحوها ! وهذا هو أكبر سبب أدى ويؤدي إلى الانفصال بين الدول والجماعات على مدار التاريخ ( وهذا هو السبب الذي يؤدي إلى الطلاق بين الزوجين) ، وهذا يعني أن تفكيراً عميقاً ودراسات مستفيضة ينبغي أن تسبق كل شكل من أشكال التوحد ؛ حتى لا يصبح ذلك الهدف الكبير من أهداف الأمة حقلاً للتجارب المخفقة .
3- تتطلب الوحدة الإسلامية بروز قدرة حسنة على (التكيف) عند أفراد الأمة ؛ إذ إن الوحدة تتطلب التنازل عما هو هامشي وصغير ومؤقت في سبيل تحقيق ما هو أساسي وكبير ودائم ، وهذا يتطلب وعياً تاماً بمكاسب الوحدة وتكاليفها بل إن الأمر يتطلب في بعض الأحيان موقف تضحية من قبل بعض الشعوب والجماعات كما يضحي الشهيد بحياته ، ويتنازل عنها في سبيل نصرة دينه ورفعة أمته ، ولن يقدم على هذه التضحية إلا المؤمن الذي تمكن الإيمان من قلبه ؛ فالفهم العميق والإيمان المكين شرطان لابد منهما لحصول ذلك ، والنقص فيهما أو في أحدهما قد يؤدي إلى تصارع فئتين دعواهما واحدة .
4- الفوارق الاقتصادية الكبرى بين كثير من شعوب العالم الإسلامي تجعل تحقيق الوحدة أمراً غير يسير ، ويذكر في هذا السياق أن التبادل التجاري بين الدول الإسلامية لا يتجاوز 4% من مجمل تجارتها ، أما ال 96% فهو مع دول غير إسلامية ، وسبب ذلك أن الغرب ظل على مدار ثلاثة قرون يكيف حاجات الشعوب الإسلامية مع فوائض إنتاجه ؛ حتى لا يجد المسلم شيئاً من حاجاته إلا في الغرب ، أو في بلدان استوردته من الغرب ! .
5- على الصعيد الثقافي ذي الأثر الخطير في العلاقات بين الشعوب نلاحظ أن أكثر مناطق العالم الإسلامي هي مراكز لاجتياح العواصف والأعاصير الثقافية ، فهذا بلد متأثر ببلد مجاور له غير مسلم ، وهذا متأثر بمن استعمره ، وآخر بمن أرسل إليه البعثات ... وهكذا . والوحدة حين تقوم لابد أن ترتكز على عدد من الركائز التربوية والثقافية إلى جانب الركائز العقدية والاقتصادية ، وهذا ما نجده ضامراً إلى حد بعيد في كثير من بلدان العالم الإسلامي .
6- يفتقد العالم الإسلامي اليوم النواة الصلبة القادرة على تبني الأطر الوحدوية وتعزيزها ، والتي تمتلك في الوقت ذاته القدرات والإمكانات التي تجذب دول العالم الإسلامي وشعوبه نحوها ، وإذا علمنا أن الظواهر الكبرى لا يمكن أن تنشأ إلا حول نواة تَنْشدّ إليها وتتحدد من حولها أدركنا الصعوبات التي تواجه الأعمال التوحيدية في العالم الإسلامي .
7- شهد أكثر بلدان العالم الإسلامي نشاط تيارات ، وطنية ، وقومية ، وإقليمية نبتت لتملأ الفراغ الذي خلفه انهيار الخلافة العثمانية ، وهذه التيارات أفرزت فلسفات وأدبيات تمجد الكيانات الصغيرة ، وتبحث لها عن أمجاد خاصة بعيداً عن الولاء للوطن الأكبر ، مما يستدعي جهوداً فكرية وأدبية وثقافية كبرى تعيد بناء العلاقة السوية بين عالمنا الإسلامي الكبير ، وبين الأوطان الإقليمية التي نعيش فيها ، والأعراق والأجناس التي ننحدر منها .
هذه بعض المعوقات التي تقف أمام خطوات توحيد العالم الإسلامي لكن لأن الوحدة في عمومها مطلب شرعي ومصيري فإن السعي نحو التقليل من أسباب الشتات والفرقة ، وبلورة بعض الأطر والمؤسسات التوحيدية يظل هدفاً وهاجساً لكل الغيورين على هذه الأمة والمخلصين لهذا الدين .
وبما أن الحديث موجه أصلاً إلى هؤلاء ، فإن بالإمكان أن نذكر بعض الإمكانات المتاحة للأفراد والهيئات الشعبية والرسمية ، مما يعد تمهيداً لجمع شمل الأمة على مستوى ما ، وبكيفية من الكيفيات على الوجه التالي :
1- تحتل اللغة العربية مكانة هامة بين وسائل التوحيد ، ومن ثم فإن المدخل الصحيح لكل أنواع التقريب بين المسلمين هو تعميم العربية بين الشعوب الإسلامية التي لا تنطق بها باعتبارها لغة أولى ؛ إذ إن اللغة ليست وعاء فقط ، لكنها وعاء ومضمون وقوالب للتفكير في آن واحد [*]؛ وينظر المسلمون في بقاع الأرض إلى العربية نظرة إجلال وتقدير لكونها لغة كتابهم ونبيهم -صلى الله عليه وسلم- وتراثهم الروحي والثقافي ، وهذا يساعد كثيراً في الإقبال على تعلمها ونشرها ، ومن واجب الجماعات والمؤسسات والهيئات المختلفة أن تسعى لإدخال العربية إلى مناهج تلك الشعوب باعتبارها لغة ثانية ، كما أن من واجبها العمل على فتح المعاهد والمراكز التي تعلم العربية .
2- من واجب الجماعات والمؤسسات الإسلامية أن تسعى إلى بلورة بعض الأطر الوحدوية كالاتحادات الإسلامية مثل (اتحاد المدرسين المسلمين ، واتحاد التجار المسلمين) .. وهكذا ، وهذا الأمر ليس باليسير إذا أدركنا أهميته ، وفرغنا له الكفاءات والطاقات المطلوبة .
كما أن من المطلوب منا أن نسعى في المنطقة العربية إلى إدخال لغة إسلامية ، كالتركية ، أو الأردية إلى مناهج تعليمنا ، حتى نقيم جسور الأخوة والتفاهم بيننا وبين إخواننا .
3- للدعاة الذين يجوبون العالم الإسلامي دور خطير في اكتشاف كل ما ينمي أوجه التعاون والتكامل بين بلدان العالم الإسلامي ثم الكتابة عن ذلك ونشره ، لتتعزز معرفة المسلمين بالإمكانات التوحيدية المتاحة .
4- العالم الإسلامي بحاجة إلى عدد من مراكز المعلومات والدراسات المرموقة التي تعنى بتثقيف الناس بهموم العالم الإسلامي ، والكشف عن إمكاناته الاقتصادية والتجارية وغيرها ؛ بغية حث الناس على توجيه طاقاتهم وتحركاتهم نحوها .
5- في زماننا هذا قد يكون الاقتصاد في كثير من الأحيان هو ما تبقى من السياسة ، بل إن السياسة تتجه لتتمحض لخدمة الاقتصاد ، وفي هذا الصدد فإن من الحيوي لنمو الصناعات في العالم الإسلامي إقبال المسلمين على استهلاكها ، وسد حاجاتهم بها ، ونحن نقف في كثير من الأحيان من هذه المسألة الموقف المنكوس حيث ننتظر تحسن الصناعة حتى نقبل على استهلاكها ، مع أن من أهم سبل تنميتها وتحسينها ارتفاع مبيعاتها ، ونجد في هذا الشأن أن أبناء الصحوة لم يفعلوا شيئاً ذا قيمة في طريق تشجيع الناس على ش'راء المصنوعات الإسلامية : لا عن طريق الطرح في الإطار النظري ولا عن طريق القدوة الحسنة ! .
6- يتطلب توحيد العالم الإسلامي المرحلية والتدرج على مستوى المؤسسات وعلى مستوى الأقاليم ، والكتل الإقليمية يمكن اعتبارها خطوات إيجابية على الطريق إذا قامت على النهج الإسلامي ، وكانت مفتوحة ، تشجع الانضمام إليها ، وتنمي في الوقت ذاته أدبيات (الكل) الإسلامي المنشود .
وفي الختام فإنني أعتقد أن الطريق شاق وطويل لكنه الطريق الوحيد الذي لا مفر منه ، وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة ، وحين يتوفر الإخلاص فإن رحمة الله قريب من المحسنين .
________________________
(*) ومع التسليم بأهمية اللغة العربية إلا أننا نعتقد أن (العقيدة) الحقّة المنبثقة من التوحيد الخالص هي الخطوة الأولى لأي عمل وحدوي ، وأهمية إشاعتها وتصحيحها مطلب مهم يجب البدء به ، وهذا ما أشار إليه الكاتب الكريم في بدايات مقاله ، ولا يُعارِض ما ذكره هنا إذ إن العربية هي الوسيلة المثلى لفهم نصوص الوحي وتعلم عقيدة الإسلام .
د. عبدالكريم بكار